؛

التنقل في المنتدى
تحتاج لتسجيل الدخول لإنشاء مشاركات أو مواضيع.

خورشيد باشا

خورشيد  باشا:

ما أجمل الأسطورة التي تأخذنا ولو قليلا بعيدا عن وحشتنا  وغربتنا داخل الأسوار العالية ،  فتطير بنا إلى مكان غير مكاننا،  وزمان غير زماننا،  فنحن هنا في المدرسة جمّعتْنا غربتنا ووحشتنا،  فلا نعرف إلا سؤالا واحدا منذ ندخل المدرسة وحتى نغادرها، متى يأتي يوم الخميس،  متى يأتي عيد الحرية من كل أسبوع،  وكيف نستعين على قسوة الانتظار الذي يُضيف إلى وحشتنا وحشة،  وإلَى غربتنا غربة،  نعم،  إنها الإذاعة،  التي طالما أخذَت بأسماعنا وألبابنا  إلى ضفافٍ من  الحرية، وإن كانت هذه الحرية  مصطنعة ومؤقتة ،  ولكنها أجمل من الحرية  الحقيقية  التي تتأخر كثيرا  فلن تأتي إلا عندما يأتي الخميس، فَكُنَّا نسمع المسلسل وَنُتابعهُ ونحْفظَهُ  ونتفق على تمثيله أيضا ،  ويبدأ عملنا الإذاعي دائما بخلاف ربما ينقلب إلى شجار على دور البطل،  ويحتدم هذا الخلاف عندما يكون  دَور البطل يتسم بالقوة والذكاء والقدرة على مواجهة الخصوم،  أو  بخفة الظل والكوميديا، أو يكون بطلاً شعبيا معروفا،  فنمثل ونحاول تقليد الأصوات من باب إتقان العمل،   ولاسيما أصوات السيارات ورنين الهاتف   والطائرات والمدافع والبحر والصحراء،   وخصوصا إذا كان هذا الصوت أو ذاك يؤثر تأثيرا جوهريا  في الخط الدرامي للعمل ،    فكانت المسلسلات الإذاعية دائما جميلة وطَيِّعة وفي  متناول آذانِنا وأذهاننا  وأخيلتنا،  وكانت لدينا إذاعة من نوع مختلف،  وهي إذاعتنا المحلية،   عم محمد صدّيق،  كان عم محمد فراشا بالمدرسة،  وكانت له غرفة تحت السلّم،   يَنام بها،  ويبيع لنا فيها المشروبات الساخنة التي لم يكن يحْسن إعدادها،  فكان يرحب بمن يذهب إليه بعد انتهاء اليوم الدراسي ويشكك له إن نفدَت نقوده على أن يدفع له يوم السبت ولا يتأخر عليه،  فالتزويغ من عم محمد كان بالغ الصعوبة، تماماً  كإتحاد الحكام  العرب فيما بينهم  على كلمة واحدة،    فكان يقبض على الضحية إما في طابور الصباح وإما في الفصل،  وهي مواضع كان  التزويغ فيها مستحيلا ،  فَكُنَّا نجتمع عند عم محمد على حكاية واحدة وعليها نفترق،  هي حكاية خورشيد باشا،  فكان يزعم لنا أن هذه المدرسة كانت قصرا لأحد العثمانيين يدعى خورشيد باشا،  فلما انقضى زمان الباشا وولى،  استولت الثورة على تركته وحولت قصره إلى مدرسة للمكافيف،  وكان الباشا يحب هذا القصر ويمكث فيه طويلا،  ولذلك فهو يزوره من وقت إلى آخر فيكون في ضيافة عم محمد،  فهو الوحيد الذي يستطيع الكلام مع الباشا وبينهما الكثير من المواقف والنوادر التي كان يحكيها لنا وكأنه يضيف ثمن الحكاية إلى ثمن المشروب الساخن  أو قطعة البسكويت، وكان عم محمد يتفنن في وصف الباشا، وكان في كل مرة يضيف أوصافا جديدة لإكساب الحكاية قدرا من الإثارة والدهشة وربما الرعب،   وكان ينفض عن لسانه غبار الزمان الطويل ليقلد لنا صوت الباشا وطريقة كلامه،   ويستوي عنده من يصدقه ومن يكذبه،  فالأمر بالنسبة له مجرد سهراية،  أما نحن فكان الأمر بالنسبة لنا مختلفاً تماماً،  فمنا من صدّق الحكاية لدرجة أنه أصبح من مُريدي عم محمد،  فأخذ عنه طريقته وأضاف إلى الحِكاية ما لم يجرأ عم محمد نفسه أن يضيفه،  وكان من بيننا من يرتعد عندما يسمع شيئا من أوصاف الباشا،  تلك الأوصاف التي تخاطب حواس المكفوفين دون غيرهم،  فلم نسمع عم محمد أو أحد مريديه يتكلم عن لون ملابس الباشا أو بشرته  أو طول شعره أو شيئا عن هيئته ومظهره ،  بل كان الكلام فقط عن صوته البشع وألفاظه القاسية العنيفة  وضخامة جسمه  وخشونة يديه التي كساهما الشوك،  غير أن الباشا عفريت، وله كل ما للعفاريت من القدرة على التخفي والبطش والإيذاء،  ونحن مكافيف غلابة،  فماذا نفعل إذا لم نصدّق واتضح أن الأمر حقيقي،  لا يا عم من خاف سلم،  وذات مرة كنا في العنبر،  وكان كلٌ منا يركب سريره ليوصله إلى الغد الذي سوف يسير به خطوة إلى يوم الخميس،  ولكن النوم تأخر بعض الشيء،  وأَحَس القوم بالأُنس والصحبة،  فتجاذبوا أطراف الحديث حتى وصلوا إلى الجديد في حكاية الباشا وعم محمد،  وكان هذا على مسمع من أصحاب القلب الخفيف،  الذين حاولوا تحويل دفة الحديث إلى جهة أخرى دون جدوى ،  وكان من  بينهم زميل صعيدي خائف للغاية ،  غير أن نخوته وحميته أبَتَا عليه أن يعلن ذلك،  فقرر قرارً خطيراً،  قرر أن يجد لنفسه مكانا آخر للنوم،  فأخذ بطانيته وانسل خارجا حتى لا يسمع ما يقولون،  وقال لنفسه الحمد لله نجونا من القوم الظالمين،  وأسلمََهُ خوفُهُ إلى حصيرة بين العنابر، فنام عليها والْتفَّ في بطانيته، فغَيَّبَهُ النومُ بعيدا عن الباشا وحكاياته ويده  وصوته،  ونام المكافيف داخل العنبر إلا واحدا منهم أصابه العطش الشديد ،  فكان  عليه أن يترك سريره ليمضي إلى دورة المياه فيشرب ويعود، ولكن الأمر بالغ الصعوبة،  فمنذ قليل كان يخوض مع الخائضين في حديث الباشا،  ولعله قال ما يستوجب عقابه، فهل يتحمل العطش الذي كاد أن يفتك به،  أم ينهض ويسترجل وليكن ما يكون من أمر الباشا ،  وأخيرا قرر القيام إلى دورة المياه ليشرب،  فالرب واحد والعمر واحد ،  وعمر الشقي بقي،  خطوة وراء خطوة خرج من العنبر،  ودلَفَ إلى المربع الكبير الذي يتوسط العنابر وهو بين الخوف وادعاء الرجولة والجدعنة،  حتى عثر بشيء على الأرض فأراد تخطيه بخطوة أخرى،  فوجد رجليه قد غاصَتَا في شيء سرعان ما تحرك تحتهما، فظن أنه دَهَس الباشا،  وظن ذلك الصعيدي النائم أن الباشا قد دَهَسَه، فقام مذعورا ،  وتصايَحَا وارتطماَ،  فاستيقظ المكافيف  وتجمعوا  حولهما ليعرفوا ما الذي أيقظ هذه الليلة بعد أن هدأت  ونامت،   وأيقظوا مشرف العنبر  الذي أخذ يأمر الجميع بالذهاب إلى الأَسِرَّة حتى تفوت هذه الليلة على خير،  وإلا فالعقاب وكتابة تقرير زي الزفت في كل من يتأخر دقيقة واحدة في تنفيذ الأمر،  وهدأت الضجة وبدأت ضجة من نوع آخر تلوح في الأفق ،  فالضحك المكتومْ سوف يوْديْ بنا،  نعم نريد أن نضحك،  ولكن  كلام المشرف واضح،   ومفهوم،   فالرجُل غاضب جدا ،  والأسلم أن نقتل الضحك قبل أن يقتلنا،  وبقينا هكذا وبقي المشرف في وسط العنبر عَلّه  يجد كبش فداء يستعين به على إخراسنا،  وبين الحين والحين، كان يُخشْخِش أحدنا بِضحكة مكتومَة، فَتنتقل عدواها إلى أصحاب الفِشَّةِ العائمة، فيخشخشون أيضا،  فيعود المشرف إلى التهديد والوعيد مرة أخرى،  حتى حدثت مفاجأة،  فقد سمعنا الخشخشة هذه المرة من أنف المشرف نفسه،  فتداعَينا لها جميعا بالضحك الذي أذهب عنا طيف الباشا،  وأخذنا نردد ما حدث ونكترّه ونضحك،  واستسلم المشرف للضحك معنا،  فمن يدري،  لعله لم يضحك منذ مدة طويلة،  وربما كان مثلنا،  يجد ما نجد من الوحشة،    فيستعين عليها بالسمر والضحك

 

بديع يا دكتور ..احيانا كثيرة نحتاج الى نفض الغبار عن سجل الذكريات المحشور في رفوف ادمغتنا ..نضحك احيانا و نتحسر احيانا اكثر ..خصوصا بالنسبة للعواجيز اللي بعمر حضرتنا ..جوكوزال افندم

لقد أضحكتني هذه القصة من أعماق قلبي. شكراً لحضرتك على نشرها بهذا الأسلوب الراقي والأنيق في الكتابة

Skip to content