#هل أتاك نبأه هل عرفت حاله بل هل سبرت أخباره هو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رحمه الله تعالى ورضي عن والده وجده هل أتاك نبأ هذا التابعي الجليل الكبير العظيم إنه فتًى جمع المجد من أطرافه كلها حتى لم يفته منه شيء فأبوه محمد بن أبي بكر الصديق وأمه بنت كسرى يزدجرد آخر ملوك الفرس وعمته عائشة أم المؤمنين وهو فوق هذا كله قد توج هامته بتاج التقى والعلم والزهد والورع فقد كان أحد فقهاء المدينة السبعة أفتحسب أن فوق هذا المجد مجداً يتنافس فيه المتنافسون #فذلكم هو القاسم أحد فقهاء المدينة السبعة وأفضل أهل زمانه علماً وأشدهم ورعاً وأحدهم ذهناً فتعالو نبدأ قصة حياته من أولها ولد القاسم بن محمد في أواخر خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه لكن الطفل الصغير ما كاد يدرج في عشه حتى عصفت في ديار المسلمين ريح الفتنة الهوجاء فاستشهد الخليفة العباد الزاهد ذو النورين وهو منحنٍ بصلبه على أجزاء القرآن وتناثرت دماؤه عليه ونشب الخلاف الكبير بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وبين أمير الشام معاوية بن أبي سفيان وفي سلسلة مفزعة مذهلة من الأحداث المتلاحقة وجد الطفل الصغير نفسه يحمل من المدينة إلى مصر مع أخته إذ كان عليهما أن يلحقا بأبيهما بعد أن صار والياً على مصر من قبل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ثم رآى أظافر الفتنة الحمرا تمتد إلى والده فتقتله شر قتلة ثم ألفا نفسه ينقل مرة أخرى من مصر إلى المدينة بعد أن استولى عليها أنصار معاوية وقد أصبح الغلام يتيماً لطيماً حدث القاسم عن رحلة العذاب هذه وما تلاها فقال لما قتل أبي بمصر جاء عمي عبد الرحمن بن أبي بكر فاحتملني أنا وأختي الصغيرة إلى المدينة فما أن بلغناها حتى بعثت إلينا عمتي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فحملتنا من منزل عمي إلى منزلها وربتنا في حجرها فما رأيت والدة قط ولا والداً أكثر منها براً ولا أوفر شفقة كانت تطعمنا بيديها ولا تأكل معنا فإذا بقي من طعامنا شيء أكلته وكانت تحنو علينا حنو الْمُرْضِعَات على الفطيم فكانت تغسل أجسادنا وتمشط شعورنا وتلبسنا الأبيض الناصع من الثياب وكانت لا تفتؤ تحضنا على الخير وتمرسنا بفعله وتنهانا عن الشر وتحملنا على تركه وقد دأبت على تلقيننا ما نطيق من كتاب الله وترويتنا ما نعقل من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت تزيدنا براً وإتحافاً في العيدين فإذا كانت عشية عرفة حلقت لي شعري وغسلت لي جسدي أنا وأختي فإذا أصبحنا ألبستنا الجديد من الثياب وبعثت بنا إلى المسجد لنؤدي صلاة العيد فإذا عدنا جمعتني أنا وأختي وضحت بين أيدينا وفي ذات يوم ألبستنا ثياباً بيضاً وأجلستنا على ركبتيها وكانت قد دعت بعمي عبد الرحمن فلما دخل حيته ثم تكلمت فحمدت الله جل وعز وأثنت عليه بما هو أهله فما رأيت متكلماً قط من رجل أو امرأة أفصح منها لساناً ولا أعذب منها بياناً ثم قالت أي أخي إني لم أزل أراك معرضاً عني مذ أخذت منك هذين الطفلين وضممتهما إلي ووالله ما فعلت ذلك تطاولاً عليك ولا سوء ظن بك ولا اتهاماً لك بالتقصير في حقهما ولكنك رجل ذو نساء وهما صبيين صغيرين لا يقومان بأمر نفسيهما فخشيت أن يرى نساؤك منهما ما يتقذرنه فلا يطبن نفساً بهما ووجدت أني أحق منهن بالقيام على أمرهما في هذه الحال وها هما الآن قد شبا وأصبحا قادرين على القيام بأمر نفسيهما فخذهما وضمهما إليك فأخذنا عمي عبد الرحمن وضمنا إليه بيد أن الغلام البكري لم يزل قلبه وروحه متعلقة ببيت عمته أم المؤمنين التي تربى في حجرها ونشأ في كنفها فعلى أرض بيتها المضمخة بطيوب النبوة درج وفي أكناف صاحبته تربى وترعرع ومن حنانها المتدفق نهل وارتوى فصار يوزع وقته بين بيتها وبيت عمه وقد ظلت ذكريات عمته الشذية الندية الرفافة تحيى في خاطره ما امتدت به الحياة ولما شب الفتى البكري كان قد حفظ كتاب الله وأخذ عن عمته ما شاء الله أن يأخذ من حديث رسول الله ثم أقبل على الحرم النبوي وانقطع إلى حلقات العلم التي كانت تنتثر في كل ركن من أركانه كما تنتثر النجوم الزهر على صفحة السماء فروى عن أبي هريرة وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن خباب ورافع بن خديج وأسلم مولى عمر بن الخطاب وغيرهم وغيرهم حتى غدَا إماماً مجتهداً وأصبح من أعلم أهل زمانه بالسنة وكان الرجل وقتها عندهم لا يعد رجلاً إلا إذا كان عالماً بالسنة ولما اكتملت للشاب البكري أدوات المعرفة وسبل العلم أقبل الناس عليه يلتمسون عنده العلم بشغف وأقبل هو يبذله لهم بسخاء فكان يأتي مسجد رسول الله غداة كل يوم في موعد لا يخلفه فيصلي ركعتين يحيي بهما المسجد ثم يأخذ مكانه أمام خوخة عمر في الروضة بين قبر النبي وبين منبره فيجتمع عليه طلاب العلم من كل مكان يلتمسون لديه العلم وينهلون من موارده العذبة المصفاة ما يملؤ النفوس العطشَى رِياً ولم يمض طويل وقت حتى أصبح القاسم وبن خالته سالم بن عبد الله بن عمر سيدي المدينة المطاعين ورجليها النافذين وإماميها الموثوقين ولم تكن في أيديهما ولاية ولا سلطان ولكن قد سودهما العلم وأحلهما تاج السيادة والفخار وقد سودهما الناس لما كانا يحملانه من التقى والورع وما يزدانان به بما في أيدِ الناس والرغبة فيما عند الله وقد بلغ من مكانتهما في النفوس أن خلفاء بني أمية كانوا لا يقطعون أمراً ذا بالٍ من شؤون المدينة إلا برأييهما ولقد كان القاسم بن محمد أشد الناس تأسياً بجده الصديق رضوان الله عليه وأرضاه حتى قال الناس لم يلد أبو بكر ولداً أشبه به من هذا الفتى فلقد أشبهه في كرم شمائله ونبل خصائله وصلابة إيمانه وشدة ورعه وسماحة نفسه وسخاء يده وقد إُثِر عنه الكثير والكثير من الأقوال التي تشهد له بهذا مما يضيق المجال لذكرها ولقد نيف القاسم بن محمد على الثانية والسبعين من عمره وقد كُفَّ بصره وهو شيخ كبير وفي آخر سنة من حياته قصد مكة يريد الحج وفيما هو في بعض طريقه أتاه اليقين رحم الله القاسم بن محمد ورضي عن جده وألحقنا به وبنبينا في الجنان #كتبها العبد الفقير إلى الله حسن بن ماهر بن علي غفر الله له ولوالديه ولمن علموه